أسباب فتور الحركة العلمية في النجف الأشرف بعد رحيل الشيخ الطوسي (قد)
img-load

بعد رحيل الشيخ الطوسي إلى بارئه عام 460 هـ أصيبت الحوزة العلمية بفتور في حركتها العلمية بعد أن كانت تسير بخطوات ثابتة نحو الرقي، و بقي ذلك الوضع لما يقرب من قرن من الزمان.

فقد خلف الشيخ الطوسي نجله الشيخ أبو علي الحسن بن محمد المتوفى بعيد سنة 512 هـ، وقام مقامه في زعامة الحوزة العلمية في النجف لما يقرب من ستّين سنة، وهو شيخ جليل فقيه ثقة عين، قرأ على والده جميع تصانيفه، كما وصفه الشيخ منتجب الدين بن بابويه[1].


وذكره ابن حجر العسقلاني، وقال: صار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد علي عليه السّلام، و هو في نفسه صدوق، و كان متديّنا كافّا عن السّب[2]، وقدعرف بالمفيد الثاني بعد المفيد الأول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، إلاّ أنّ الشيخ أبا علي لم يخرج عن دائرة شرح آراء والده الشيخ الطوسي، ولم يعرف له أثر علمي غير شرح كتابه"النهاية".


وبعد وفاته خلفه نجله الشيخ أبو الحسن محمد بن الحسن بن محمد، وصار مرجعا للشيعة إلى أن توفي سنة 540 هـ.، وهو كما ترجمه أبو فلاح عبد الحي بن عماد الحنبلي: شيخ الشيعة و عالمهم، و ابن شيخهم و عالمهم. رحلت إليه طوائف الشيعة من كلّ جانب إلى العراق وحملوا إليه الأموال، وكان ورعا عالما كثير الزهد. وأثنى عليه السمعاني، وقال العماد الطبري:


لو جازت على غير الأنبياء صلاة لصلّيت عليه[3].


ومع كلّ ذلك فقد بقيت الحوزة العلمية في النجف تدور غالبا في أفكار الشيخ المؤسّس حتى وصفت بالجمود في مسيرتها العلمية التي ابتدأها الشيخ.


قال السيّد رضي الدين بن طاووس في كتابه"كشف المحجّة لثمرة المهجة: "أخبرني جدّي ورّام بن أبي فراس: أنّ الحمصي حدّثه أنّه لم يبق للإمامية مفت على التحقيق، بل كلّهم حاك.


ثمّ قال: وكان ذلك الزمان فيه جماعة من أصناف العلماء و ليس في وقتنا الآن من يقاربهم، و الآن فقد ظهر أنّ الذي يفتى به و يجاب على سبيل ما حفظ من كلام المتقدّمين [4].

وقال الشيخ حسن بن الشهيد الثاني زين الدين الجبعي: وأكثر ما يوجد مشهورا في كلامهم حدث بعد زمان الشيخ الطوسي، كما نبّه عليه والدي رحمه اللّه في كتاب "الرعاية" الذي ألّفه في دراية الحديث مبيّنا لوجهه، و هو:

أنّ أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له، لكثرة اعتقادهم فيه و حسن ظنّهم به.

فلمّا جاء المتأخّرون وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه، فحسبوها شهرة بين العلماء، وما دروا أنّ مرجعها إلى الشيخ، وأنّ الشهرة إنّما حصلت بمتابعته.

وممّن اطّلع على هذا الذي بيّنته وتحقّقته من غير تقليد، الشيخ الفاضل المحقّق سديد الدين محمود الحمصي، والسيّد رضي الدين بن طاووس، وجماعة [5].

ومع ما يظهر من كلام السيّد ابن طاووس من مبالغة و إنّه غير تام على هذا الإطلاق، و كذا ما يظهر من تعسّف في القول بأنّ كلّ مشهور بين العلماء بعد زمان الشيخ الطوسي هو ما عمل به الشيخ و متابعوه، إلاّ أنّه يكشف عن مدى بطء المسيرة العلمية التي أعقبت رحيل الشيخ الطوسي. ويمكن إرجاع هذا البطء في مسيرة النجف العلمية إلى ما يلي:


1. إنّ الحوزة العلمية في النجف كانت قصيرة العمر العلمي، إذ يبلغ عمرها اثني عشر عاما، وهي المدّة ما بين هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف عام 448 هـ حتى رحيله عام 460 هـ، و في مثل هذه الفترة القصيرة لم يكن لدى طلبة الحوزة من النضوج الفكري الذي يؤهّلهم لتمحيص و نقد آراء أستاذهم الشيخ، فكان هناك بونا شاسعا بين ما وصل إليه الشيخ المؤسّس من مستوى علمي و مستوى طلبته في هذه الحوزة، و قد بقيت هذه الحالة لفترة طويلة من الزمن بعد وفاته.


2. ما وصل إليه الشيخ الطوسي من منزلة علمية جعلت منه مهابا ومعظّما كلّ التعظيم لدى طلبة الحوزة النجفية، و قد طغى هذا الجانب الروحي على الجانب العلمي فلم يجرؤ أحد منهم على مناقشة آرائه بعد رحيله إجلالا له.

 

3. إنعزال مدينة النجف عن توطّن علماء المذاهب الإسلامية الأخرى ممّا جعل من الشيخ الطوسي في فترة إقامته في النجف في انقطاع عن المناظرة والمذاكرة العلمية مع علماء باقي المذاهب. وغير خفي أنّ في المناظرة و المذاكرة حياة العلم، وبها يستبين قوي الحجّة من غيره، كما أنّها رياضة علمية تجعل ممّن يزاولها قوي الفكر سديد القول. وقد استطاع الشيخ الطوسي خلال إقامته في بغداد أن يستثمر تلك المناظرات والمذاكرات على أتمّ وجه فألّف كتابيه "الخلاف" و "المبسوط". وبهجرة الشيخ الطوسي إلى النجف انعدمت تلك المناظرات فأثّرت سلبا على حوزة النجف الفتيّة.


المصدر: تاريخ النجف الأشرف ج1 / ص101-104.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- الفهرست: 46.

[2] -لسان الميزان: 2/250.

[3] - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: 4/126.

[4]- كشف المحجّة لثمرة المهجة: 127.

[5] - معالم الدين و ملاذ المجتهدين: 176.